أعطى إشارة الموافقة لشاب يعمل عنده أن إنصرف ، ثم بدأ بنفسه بإعداد فنجانين من القهوة في مكان معد لذلك ، لم تكن الملعقة وحدها التي تدور في الركوة ، بل يشاركها بالدوران أفكار في رأسه ، و كلمات تتقافز في ذهنه ، يستبعد لفظا و يستثني آخر حتى يطمئن لثالث ، بعناية فائقة أصبحت الفكرة جاهزة ، فانشرح صدره و نادى شريك عمله : أبا أحمد لا تنصرف فالقهوة جاهزة ، إشارة ود و تحبب من متقن ... جاءه صوت شريكه حسنا أنا قادم ، كان في نبرته شيئا من - أنا مستعجل - و شيئا من - أنا مستغرب - فالوقت متأخر.
على طاولة العمل جلسا ... بدأ بالحديث و هو يصب القهوة يتحاشى التقاء العينين ، كأنه خجلا من شريكه ، بل من نفسه ، أبا أحمد أريد أن أقول شيئا لا داعي لقوله ، لكن لا بأس في سماعه و تأكيده ، فأنت تعلم أننا أخوة و قد ورثنا هذا العمل من والدينا الذين كانا كذلك ، و كانا مثالا في السوق للوفاق و النجاح و سعة الرزق ، و ها نحن مستمرون بإذن الله في ذلك ، و لكن منذ فترة وأنا ألاحظ الفرق في وفر المال بيني و بينك ، هذه الملاحظة أرقتني و كانت مدخل ل لشيطاني – أستغفر الله – و لا أنكر ... لا أنكر أن هذا دام أكثر مما يجب .
أبو أحمد يشعر أن جدران الغرفة تعصر صدره ، تقطيبة حاجب ، و علامة لأسنانه على شفاهه ، ضجيج داخلي يمتزج بصمته ، هم بدفع التهمة عن نفسه فأتاه صوت شريكه ..... لكني ؟
لكني و بحمد الله راجعت نفسي ، و تذكرت أن عدد أولادي أكثر من عدد أولادك و زوجتك مدبرة منزل أكثر من زوجتي و هذا يفسر الفرق في وفر مالك .
يصمت قليلا ثم يتابع
لكني أخشى أني قد أكون قد مررت دون قصد مني تلميحات تشي بذلك ، لذلك جئتك لأقطع الطريق على شيطانك ، متهما نفسي ومرافعا عنها فأرجوا أن ينال الموافقة عندك ذلك .
الصمت يسيطر على أبو أحمد ، شيء ما يعتمل في ذهنه ، لقد بنا خلال حديث شريكه - إستراتيجية ـ للدفاع عن نفسه ، لكن كلمات في حديث شريكه كانت كمعول يهدم جدرانا كستها مع الزمن غبار التلميحات المتبادلة ، كلمات سدت نوافذ ..نوافذ كادت أن توصلهما إلى حل الشراكة .
فجأة وجد نفسه يخرج من ثنائيات الحياة المتضادة ، الثنائيات القاتلة ، يخرج من متهم و بريء ، ومن منتصر و مهزوم ، و من قوي و ضعيف ، من محق و محقوق ، إلى ثنائيات متماثلة أحبك و تحبني ، أودك و تودني ، أحترمك و تحترمني ، تمتم في سره ( أحبك يا شريكي بكل علاّتك )
تنبه جانب في شخصية أبو أحمد لا يستغني عنه ، ورثه مع المال عن والده ، يختصر في مبدأ عزيمة بعزيمة ، و هدية بهدية ، و مكرمة بمكرمة ، فأبو أحمد ( لا يرميها واطية !) و الآن أبو أحمد سمع كلاما من شريكه و يجب أن يرد بأحسن منه أو على الأقل بمثله .
توجه بالحديث إلى شريكه : دعني أعترف لك بشيء ، ليس شيطاني بأضعف من شيطانك ، فقد وسوس لي..نعم نعم وسوس لي عندما خف في العام الماضي دوامك أثناء مرض ابنك ، و قد مررت بعض التلميحات ...يقاطعه شريكه : لا داعي لذلك
في لحظة واحدة وقف الشريكان و امتدت أربع أيد إلى بعضهما لا لتتشابكا و لكن لتضم كل إثنتين منهما الآخر كأنها درع تحمي ظهره .
لم يبتعد الجسدان إلا و قد تجمعت في عيون كل منهما دمعة كانت أشبه بعنوان يختصر كل تفاصيل المشهد ، كانت دموع الشريك أكثر غزارة ربما - أقول ربما - لأنه هو من خطط لحالة الوفاق هذه .
أغلقا محلهما ، أحدهما أشعل بنشوة سيكارة و الآخر بفرح لعب بسلسلة مفاتيحه ، مشى كل منهما إلى سيارته
في الصباح تهاتفت الزوجتان كل منهما تستنطق الأخرى ، فعلائم الفرح كانت واضحة على الزوجين ، لا بد أن صفقة رابحة حصلت في العمل مساء أمس ؟!.
لم تعلما أن شيئا من هذا لم يحصل
و أن شيئا من هذا قد حصل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نسمة الروح