بحث
بحث متقدم

اسدل الليل ستاره ليخبىء بين طيات ظلامه هموم الناس وتعبهم في كل رقعة من رقعات الزمن
وبينما اوراق الشجر تبكي على ارصفة الطرقات والاشجار تتراقص نشوة من ظلمات الليالي
انطفأت اضواء المدينة لتخنق تحتها اروح البشر
ووسط تلك السكينة المظلمة انفجر فجأة صوت طفل صغير ليقطع هدوء الشارع الطويل
انه صوت تحن له القلوب.......وتبكي له الافئدة
كان بكاءه يصارع الرياح القوية ليطير محلقا بين السماء والارض......كأنه يصرخ معترضا على وجوده بجانب القمامة المترامية
رافضا ذاك الوشاح الاسود الذي أخفى تحته كل ملامح البراءة والطفولة بداخله
كانت تسمع بجانبه وطأة اقدام المارة في ذاك الطريق
وفجأة توقفت اقدام رجلا في العقد الثالث من عمره
نظر اليه بشفقة وهمس بحزن شديد :اه ايها الطفل المسكين هل من المعقول ان يرمي اب طفله الذي يجري دمه في عروقه.وهل من المعقول ان تنسى ام امومتها وحنانها لتلقي بها هنا بجانب اقدام المارة
كم اتمنى ان اخذك معي لبيتي ايها الصغير .....ولكن اه من هذه الحياة ومن هذا الزمان
لم يعد يستطيع الرجل تأمين حاجات منزله واطفاله
فأولادي الخمسة مسؤولية كبيرة حتى لتخالها اكبر من عاتقي لذلك سامحني ياصغيري ليس بيدي سوى ان ادعو ان يتلطف الله بك ولتشملك رحمته
تثاقلت خطوات الرجل واكمل مسيره غارقا بهمومه
كان الطفل الصغير يصرخ وسط تلك المدينة الغارقة بالضباب وكأنه كان يعي هموم المارة من جانبه.....
لم يقطع صدى بكاء ذاك الطفل سوى صوت رنين اساور وطقطقت كعب عال
كانت شابة في ربيع عمرها ورغم ضحكاتها المتناثرت هنا وهناك .........كانت نظرة الحزن تملأ عينيها وروحها
لكنهاورغم قسوتها على نفسها اوقفها الحنان بجانب ذالك الطفل
كانت تود لو انها تحمله وتفرغ جعبة احزانها وتبكي على صدره عل دموعها تطهر خطاياها
لكن لم يطل شرودها فمشيت بهدوء
كاد الطريق ان يتثاقل منها ومن خطواتها
نعم رحلت ولكن قلبها ينزف حزنا عليه..........
ومن بين اضواء المدينة الخافتة ومن اول الشارع كانت هناك امراة تتمايل من الارهاق
كاد الظلام ان يخفي ملامحها المختبئة خلف لمسات السنين
كانت شاردة .معاتبة تلك السنوات التي مرت عليها وسرقت منها عمرها واحبابها واحلامها .وتركتها هنا تصارع الحياة والحياة تصارعها
وما ان تهافتت الى مسامعها صوت ذاك الطفل حتى انقطع حبل تفكيرها .فبدأت تبحث بعينيها عن مصدر ذاك الصوت وذاك الطفل الغارق في البكاء
وكلما علا صوت ذاك الطفل كانت ام محمود تعود بذاكرتها سنوات وسنوات الى الماضي
الى ان وصلت امام ذاك الطفل والتقت عيناها بعينيه
فتوقفت تخاطر افكارها ورأت في عيني ذاك الطفل الصغير عيني ابنها الوحيد
كانت عيني ذاك الطفل تلمع للحياة بينما عيني ابنها تغمضان لتفارق الحياة امام ناظريها
فنامت عينا ابنها داخل عيني ذاك الطفل الباكي
وبهدوء تام اقتربت ام محمود لتحمله بكفيها المرهقتان لتشتم منه رائحة ابنهاوكلما اقتربت من عينيه كانت تتابع بهما صورا لاجمل لحظات ابنها
فحملته بحنان ليس بعده حنان وكأنها تحمل نعش طفلها لترقده في قلبها
فسكت الطفل وكانه علم بكل ما بادر الى ذهنها وبدأ يهدأ ونسي برد الشتاء القامع في تلك الزاوية المنسية خلف القمامة. وتسرب الدفء الي قلبه رويدا رويدا حتى سكن روحه
وبتواضع تام رحلت عيناها الى السماء هامسة بالشكر لله على هذه المنحة الرائعة علها تدفء ايامها القادمة
وفجأت تبسمت شفاههابعد ان نسيت الابتسامة لوقت طويل عندما بدأ الطفل الصغيربتحريك راسه باحثا عن حقه في هذه الحياة وبفطرته كان يبحث عن ذاك الصدر الحنون ليشبع منه جوعه ووحدته
رحلت به وما ان وصلت الى غرفتها المتواضعة الباردة حتى انبعثت فيها الحياة من جديد
كانت الغرفة تتراقص نغما على صوت ذالك الطفل الجائع للحياة المخبئة بين طيات الايام القادمةوبشغف كبير استطاعت ام محمود تامين الغذاء وبعض الملابس القديمة لتقيه جوع وبرد الشتاء
ولكن مفاجئتها كانت عظيمة عندما ادركت بان هذا الطفل الوسيم الملامح هو فتاة
ففرحت واطمئنت على ايامها القادمة لان الله رزقها ابنة وصديقة تساندها لطيلة عمرها
فحملتها وبدأت تحادثها كصديقة لها: يالك من صغيرة رائعة الجمال يا ابنتي لقد وهبني الله اياكي لاداوي تشردك بمرارة ايامي عل ايامي تزهر وايامك تثمر
اما ما يشغلني الان هو اسمك ياصغيرتي
اريد ان اعطيك اسما اشكر به الله احسانه علي
نعم احسانه علي فأنت والله احسان
تتابعت الايام وكان لابد لام محمود من مواظبة الخدمة في البيوت فهو مصدرها الوحيد لتوفير سبل العيش لها ولابنتها احسان
اما احسان فلم يكن لها مأوى سوى بيت جارتهم ام ياسرلتعتني بها مع اولادها الثلاثة .كانت تتمنى لو ان الله رزقها بفتاة...وهاقد جاءتها الفرصة للاعتناء بفتاة صغيرة
وستساعدها الايام لتكبر هذه الفتاة امام ناظريها
وبعناية ام ياسر وبحنان ام محمود بدأت ملامح احسان تترسخ وتكبر وبدأ طولها يلاعب نسمات الهواء
مرت السنين الخمسة واحسان تنظر الى هذه الحياة بتلك العيون البريئة
كانت تضحك للحياة..........والحياة تدعوها لتخوض جعبة ايامها ولتكشف اسرار ساعاتها
وما ان قست اظافرها حتى بدات ام محمودتاخذها الى ذاك القصر الكبير.....ذاك القصر الذي لطالما شعرت جدرانه بحزن ام محمود وتعبها وذل اصحابه لها
ولكن هل من المعقول الا يذلوها ....فهم برأيهم اصحاب نعمتها وهم من يطعموها ولطالما كانت النقود تذل الفقير لينال لقمة العيش التي لا تكاد تسد ظمأه
وهل هناك من يرضى لنفسه بالذل الا ان كانت الحياة قد اذلته ودهسته تحت اقدام اقدارها
كانت احسان كلما ذهبت لمساعدة امها تزداد عيونها انبهارا بكل ما تراه.......لا ...ليس بكل ما تراه
لم تكن عيناها لترى فخامة القصر او رقي مفروشاته او تلك السيارات المنتظرة دورها لتسير وتوصل راكبها وحاشيته
انما كانت عيناها تنظر الى مساحة الحديقة الكبيرة وذاك المسبح المليء بالالعاب العائمة .وتلك المراجيح التي تتلاعب بها نسمات الهواء وكلما تأرجحت يتأرجح قلبها شوقا لركوبها
لقد كانت طفولتها تشدها الى تلك الالعاب (فواعجبي من ذنب لم تقترفه طفولتها وما ذنب الطفولة البريئة في عصر العملة الصعبة هل اضحى الدولار يتحكم بالطفولة وفرح الطفولة واحلام الطفولة..........لا ادري)
لكن ماكان يزيد حيرتهاودهشتها هو ابن تلك العائلة انه عادل ابن السيد رستم الوحيد المدلل
كانت تندهش من اناقة ثيابه وترتيبها ومن انتظام وجبات طعامه وتلك الاصناف التي لا تعرف اسمها
لقد كانت طلباته اوامر .....كيف لا.....وهو ابن السيد رستم وامه مدام الهام ابنة اكبر العائلات
كانت احسان تنظر بشوق الي حياة السيد عادل اما هو فكان ينظر الى حب ام محمود لاحسان وتدليعها وحنانها فقد كان يفتقد الى حنان امه ورعاية ابيه لان والده كان مغموسا بعمله وامه كانت منهمكة بالسهرات وبالاهتمام بالجمعيات الخيرية التي تراعي اليتيم والحيوانات
لم يكن والديه برأيهم ينقصون عليه شيئا فجميع الخدم ستقدم له وجبات طعامه وثيابه بالوقت المحدد وهذا كل ما يحتاجه الطفل متجاهلين ذاك الجدار الذي بني بينهم وبين ابنهم الوحيد. لم يدركا انه بحاجة الى العطف والحنان اكثر من حاجته الى الطعام واللباس والنقود المتكدسة بخزنة ابيه والالماس المرصوص على عنق والدته
اما ام محمود فما كانت لتنقص حبها وحنانها للسيد عادل
وكانت تسمح للطفلين باللعب اثناء غياب الوالدين
ومرت الايام وبدأت الاقدار تنسج خيوط المحبة والصداقة بين الطفلين
(يتبع باذن الله)


Delicious Digg Facebook Fark MySpace