بحث
بحث متقدم

 

كان هنالك رجل شديد في زمن الشيخ فريد، اسمه رهيب،وكان رهيب قد أخذ على نفسه عهداً أن يقطع رأس ألف شخصٍ، ثم يأخذ إصبعاً من كلٍ منهم ويصنع طوقاً من ألف إصبع.
كان رجلاً متوحشاً جداً.. ابتعد الناس عنه، حتى أنه لم يعد أحد يستخدم الطريق المار بالتلة حيث يسكن...
حتى ذلك الوقت، كان قد قطع تسعمئةٍ وتسعاً وتسعين رأساً، وما يزال بانتظار رأسٍ واحدٍ أخير...
الطريق بجانب مسكنه كان خالياً تماماً، لا يعبره حتى النسيم...
وفي ذات يومٍ... أتى الشيخ فريد ليعبر منه، فقد كان طريقا مختصراً، ولكن الناس كانوا يذهبون في الطريق الطويل ليتجنبوا رهيب.
 
بطبيعة الحال، أخذ فريد الطريق المختصر...
خاطبه تلاميذه: ”أيها المعلم، أنت لا تعرف ماذا تفعل! ألم تسمع بذاك الرجل المجنون رهيب؟ من الأفضل أن نذهب ونلتف عبر الطريق الطويل، بدلاً من المختصر."
ولكن أشخاصاً كفريد لا يتراجعون أبداً.. قال لهم: ”لا أستطيع العودة، الآن بالذات أكثر من قبل.... لو لم أعرف عن رهيب منكم، لربما ذهبت في الطريق الآخر...
ذلك الرجل المسكين ينتظر رأساً واحداً فقط! وأنا أنهيت عملي،عرفت كل ما يمكن معرفته، واختبرت كل ما يمكن اختباره.. والآن لا سبب عندي للبقاء.. سيكون من الجيد إذا أمكنني أن أقدم خدمةً ما لذلك الرجل المسكين”...
 
وذهب فريد في الطريق، فرآه رهيب.
تلاميذ فريد الذين كانوا ملتصقين به على الدوام، بدؤوا تدريجياً يصنعون مسافةً بينهم وبينه، ليتمكنوا من الهرب على الأقل، إذا أُمسِك به.
رأى رهيب الشيخ فريد مقبلاً... حتى ذلك الرجل الخطر، الذي قتل تسعمئةٍ وتسعاً وتسعين إنساناً، شعر للمرة الأولى أنه أيضاً يملك قلباً...
كان فريد يبدو بريئاً كطفل، وجميلاً للغاية تحت أشعة شمس الصباح الباكر.
صاح به رهيب: ”تراجع أرجوك، فلم يبقى سوى رأس واحد ينقصني!! لعلك غريب، ولكن من مجرد النظر إليك، شيء في داخلي يقول لي: "اترك هذا الرجل يذهب، هنالك كثيرٌ من الحمقى لتقطع رؤوسهم"... حتى لو أن أمّي أتت إلى هنا لقطعت رأسها! ولكن أنت أرجوك عد للوراء.. لا تقترب مني أكثر.. فأنا خطير!! أترى سيفي؟ إنه بانتظار الرأس الأخير..”
 
لكن فريد تابع سيره.. وتنحى عن الطريق وبدأ يمشي باتجاه التلال، مقترباً من رهيب..
قال رهيب: ”يبدو أنك مجنون أكثر مني، لماذا تستمر بالتقدم نحوي؟”
قال فريد: ”يا رهيب، لقد توقفتُ عن الذهاب إلى أي مكان منذ زمنٍ طويل، أنا لست ذاهباً إلى أي مكان، لكن أنت نعم تذهب ولا تعلم”...
رهيب كان واقفاً مكانه، وفريد كان يمشي !
قال رهيب: ”لا بد أنك مجنون، أنت تمشي وتتحرك، وتقول أنك توقفتَ منذ زمن.. وأنا واقفٌ وتقول لي أنت تتحرك!“
قال فريد: ”فقط حاول أن تفهم ما أقول، إن فكرك يتحرك، يفكر.. أما فكري فساكن، لا توجد أي حركة... وأنت لن تحظى برأسٍ أفضل من رأسي... ومن دواعي سروري حقاً أن توفي نذرك... هيا حضّر سيفك”
 
لم يستطع رهيب أن يفهم أي نوعٍ من الرجال كان ذاك.. فوقع في صدمةٍ كبيرة.. لم يصادف أبداً مثل هذا الرجل!
وللمرة الأولى في حياته كان خجلاً من نفسه، لم يستطع أن يضع عينيه في عيني فريد اللتان كانتا تشعان بالرحمة والحب، الجمال والفرح، السعادة والنشوة...
أشياء ما سبق له أن عرفها.. لكن شذاها كان يمتد إليه.
قال مجدداً لفريد: ”أرجوك اذهب يا سيدي، لا أريد أن أقتلك، أنت تدفعني بإصرارٍ، وبغير ضرورةٍ، كي أفعل شيئاً لا أريد فعله“
 
لكن فريد استمر بالاقتراب، حتى وصل أخيراً ووقف أمام رهيب.
قال له رهيب: ”كنتُ أظن أنني عنيد، لكنك أكثر عناداً مني بألف مرةٍ، والآن لا أستطيع فعل شيء، يجب أن أقطع رأسك”
قال له فريد: ”هناك عادةٌ وعرفٌ قديم، وهو أن تلبي الرغبة الأخيرة للشخص قبل موته.. وأنا لدي أمنيةٌ بسيطة، حققها لي ثم اقتلني”
فأجابه: ”ما هي أمنيتك؟ مهما كانت كبيرةً سأنفذها لك“
قال فريد:”بل على العكس، إنها صغيرةٌ جداً، فقط اقطع غصناً من الشجرة التي تقف تحتها”
قال رهيب: ”ما هذا الشيء الغريب الذي تطلبه؟ ولكن حسناً، مادامت هذه رغبتك“
قطع رهيب بسيفه غصناً من الشجرة.
فقال فريد :”والآن أعده إلى مكانه. اجعله جزءاً من الشجرة مرة ثانيةً. دعه يزهر من جديد”
أجاب رهيب: ”هذا مستحيل، كيف لي أن أعيده إلى الشجرة ثانيةً؟”
قال فريد: ”أنت لم تقدر حتى على وصل غصنٍ بشجرةٍ، فهل تدرك علام يدل هذا؟
إن بمقدور أي طفل أن يكسر ذلك الغصن- وأنت رجلٌ قوي- فما فعلته ليس عملاً عظيماً.. وبإمكانك قطع رأسي، لكن هل تستطيع أن تهبني الحياة من جديد؟
وإذا لم يكن بمقدورك أن تخلق، فبأي حقٍ تدمّر؟”
 
مرّت لحظاتٌ من الصمت... ووقع السيف من يديّ رهيب.. ثم قام برمي الطوق ذو الألف إصبع بعيداً.. فسقط عند قدميّ فريد.
وقال: ”لم أفكر بالأمر على هذا النحو أبداً، باستطاعة أي شخصٍ عادي.. جبانٍ أو أحمق، أن يدمر أي شيء... لكن العبقري الحقيقي يكون خلاقاً..
أنت على حق.. أرجوك اقبلني تلميذاً عندك“
فقبله وضمه إلى تلاميذه...
 
لما عاد فريد إلى المدينة، حتى الملك أصابه الخوف عند سماعه أن رهيب قد أصبح تلميذاً عند فريد...
كان يحب فريد كثيراً، إلا أنه كان خائفاً من الذهاب إليه، لأن رهيب لم يكن موثوقاً بالنسبة له، ومن الممكن أن يفعل أي شيء في أية لحظة.
لكنه أراد رؤية الرجل.. فقد كان مشهورا في أنحاء البلاد.. وكانت الملوك ترتعد خوفاً حتى من ذكر اسمه.
فجاء إلى فريد، قبّل يده ثم سأله: ”لقد سمعتُ أن رهيب قد صار واحداً من تلامذتك؟”
أجابه فريد: ”نعم، وهاهو يجلس بجانبي“
خاف الملك كثيراً وسحب سيفه فوراً، فقال له فريد: ”أعد سيفك إلى غمده، لستَ بحاجةٍ إليه الآن.. رهيب الذي عرفته سابقاً مات، وهذا الرجل هنا مختلفٌ كلياً ولا يقدر على إيذاء أحد.. فلا تخف”
 
وفي اليوم ذاته،عندما ذهب رهيب ليجمع الصدقات في المدينة.. هاجمه الناس الجبناء أنفسهم الذين توقفوا عن المرور بالطريق القريب من مسكنه..
أقفلوا أبوابهم، ووقفوا على شرفاتهم مع كوماتٍ من الحجارة إلى جانبهم، وبدؤوا برميها على الرجل المسكين.. فوقع والدماء تغطي جسده بالكامل.
وصل الخبر إلى فريد فأتى... كان الرجل على بُعد لحظاتٍ قليلةٍ من الموت، قال له فريد: ”تذكر شيئاً واحداً.. إن تصرفك هذا، وعدم ردك على عدائية الناس بأي شكلٍ كان.. كافي بحد ذاته وشافي. والآن ستموت وأنت مستنيرٌ حقيقي“
...مات رهيب وهو يبتسم ويلامس قدمي الشيخ فريد.
 
لا تخافوا من عدائية الناس، فقط كونوا واعيين للرحمة، والحب بداخلكم.. وكل الأمور ستكون على ما يرام..
أما فيما يتعلق بي، فمن الضروري أن أصنع الوسائل.. سيكون عليّ أن أقول لكم أشياءً تستطيع إيقاظكم.. قد لا تكون حقيقية، لأن الحقيقة أولاً، لا يمكن إخبارها. وثانياً، إذا تمكن أحدٌ من قولها بطريقةٍ ما، فلن تصل أبداً إلى الشخص النائم..
الشخص النائم يعيش في الأكاذيب.. إنها اللغة التي يفهمها..
وإذا توجب عليّ أن أجعلكم تفهمونني، فسأفعل كل ما هو ممكن، ومن ضمنه قول الأكاذيب.. لأن الهدف من وراء الكذب ليس الكذب بحد ذاته.. بل هو إيقاظكم فحسب.
 


Delicious Digg Facebook Fark MySpace