بحث
بحث متقدم

لقد رأيته
ماذا كان يفعل هناك ذلك الصغير الجالس وحيداً على رصيف الذهول؟؟
كان الجميع منشغلين عنه بدفن الموتى .خمس وأربعون جثة  تجاوز عددها ما يمكن لمقبرة أن تسع من أموات فاستنجدوا بمقبرة القرية المجاورة.
كان الصغير جالساً كما لو أنّه يواصل غيبوبة ذهوله..
أخبرني أحدهم أنهم عثروا عليه تحت السرير الحديديّ الضيّق الذي كان ينام عليه والده. حيث تسلل من مطرحه الأرضي الذي كان يتقاسمه
مع أمه وأخويه وانزلق ليختبئ تحت السرير.
أو ربما كانت أمه هي التي دفعت به هناك لإنقاذه من الذبح .وهي حيلة لا تنطلي دائماً على القتلة .
ماذا تُراه رأى ذلك الصغير ، ليكون أكثر حزنا من أن يبكي؟؟ لقد أطبق الصمت على فمه ولا لغة له إلا في نظرات عينيه الفارغتين
اللتين تبدوان كأنهما تنظران إلى شيء يراه وحده . حتى إنه لم ينتبه لجثة كلبه الذي سممه المجرمون ليضمنوا عدم نباحه ، والملقاة على مقربة منه،
في انتظار أن ينتهي الناس من دفن البشر ويتكفّلوا بموارة الحيوانات .
كان يجلس وهو يضم ركبتيه الصغيرتين إلى صدره. ربما خوفاًأو خجلاً لأنه تبوّل في أثناء نومه تحت السرير وما زالت الآثار واضحة على سرواله البائس.
هو الآن مستند إلى جدار كُتبت عليه بدم أهله شعارات لن يعرف كيف يفكّ طلاسمها , لأنه لم يتعلم القراءة بعد . ولأنه لم يغادر مخبأه،
فهو لن يعرف بدم من بالتحديد وقّع القتلة جرائمهم ، بكلمات كُتبت بخط عربي رديء ، وبحروف ما زال يسيل من بعضها الدم الساخن ،
أبدم أمه ،أم أبيه ،أم بدم أحد إخوته؟؟
هو لن يعرف شيئاً. ولا حتى بأي معجزة نجا من بين فكي الموت ، ليقع بين فكي الحياة .
وأنت لا تعرف بأيّة قوة ولا أيّ سبب، تركت الموت في مكان مجاور ، ورحت تصّور سكون الأشياء بعد الموت وصخب الدمار في صمته
ودموع الناجين في خرسهم النهائي . لم تكن تصور ما تراه ، بل ما تتصور أنّ ذلك الطفل رآه حدّ الخرس.
عندما كنت ألتقط صورة لذلك الطفل ، حضرني قول مصّور أمريكي أمام موقف مماثل:(( كيف تريدوننا أن نضبط العدسة وعيوننا مليئة بالدموع)).
ولم أكن بعد لأصدق ، أنك كي تلتقط صورتك الأنجح ، لا تحتاج إلى آلة تصوير فائقةالدقة ، بقدر حاجتك إلى مشهد دامع يمنعك من ضبط العدسة.
لا تحتاج إلى تقنيات متقّدمة في انتقاء الألوان ، بل إلى فيلم بالأسود الأبيض، ما دمت هنا بصدد توثيق الأحاسيس لا الأشياء.

              
مقتطف من رواية عابر سرير للكاتبة أحلام مسغانمي                     

                                                       

Delicious Digg Facebook Fark MySpace