بحث
بحث متقدم
Category: اسلامي

 

قصة أبى غياث المكي وزوجته لبابة
 


من علامات الصدق الخوف من الله والزهد في الحياة ، فالصادق في يقينه يخاف أن
يأكل من حرام، ويتحمل الفقر والمشقة طمعا في دار السلام ، وإن أتى ذنبا فإنه لا
ينام ، حتى يعود إلى ربه ، ويتبرأ من ذنبه .

قا ل ابن جرير الطبرى : كنت في مكة في موسم الحج فرأيت رجلا من خرسان ينادي
ويقول : يا معشر الحجاج ، يا أهل مكة من الحاضر والبادي ، فقدت كيسا فيه ألف
دينار ، فمن رده إلى جزاه الله خيرا وأعتقه من النار ، وله الأجر والثواب يوم
الحساب .

فقام إليه شيخ كبير من أهل مكة فقال له : يا خرساني بلدنا حالتها شديدة ، وأيام
الحج معدودة ، ومواسمه محدودة ، وأبواب الكسب مسدودة ، فلعل هذا المال يقع في
يد مؤمن فقير وشيخ كبير ، يطمع في عهد عليك ، لو رد المال إليك ، تمنحه شيئا
شيئا يسيرا ، ومالا حلالا .

قال الخرساني : فما مقدار حلوانه ؟ كم يريد ؟

قال الشيخ الكبير : يريد العشر مائة دينار عشر الألف .

فلم يرض الخرسانى وقال : لا أفعل ولكنى أفوض أمره إلى الله ، وأشكوه إليه يوم
نلقاه ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .

قال ابن جرير الطبرى: فوقع في نفسي أن الشيخ الكبير رجل فقير ، وقد وجد كيس
الدنانير ويطمع في جزء يسير ، فتبعته حتى عاد إلى منزله ، فكان كما ظننت ،
سمعته ينادى على امرأته ويقول : يا لبابة .
فقالت له : لبيك أبا غياث .
قال : وجدت صاحب الدنانير ينادي عليه ، ولا يريد أن يجعل لواجده شيئا ، فقلت له
: أعطنا منه مائة دينار ، فأبى وفوض أمره إلى الله ، ماذا أفعل يا لبابة ؟ لا
بد لى من رده ، إنى أخاف ربى ، أخاف أن يضاعف ذنبي .

فقالت له زوجته : يا رجل نحن نقاسي الفقر معك منذ خمسين سنة ، ولك أربع بنات
وأختان وأنا وأمي ، وأنت تاسعنا ، لا شاة لنا ولا مرعى ، خذ المال كله ، أشبعنا
منه فإننا جوعي , واكسنا به فأنت بحالنا أوعى ، ولعل الله عز وجل يغنيك بعد ذلك
، فتعطيه المال بعد إطعامك لعيالك ، أو يقضي الله دينك يوم يكون الملك للمالك .

فقال لها يا لبابة : أآكل حراما بعد ست وثمانين عاما بلغها عمري ، وأحرق أحشائي
بالنار بعد أن صبرت على فقرى ، وأستوجب غضب الجبار، وأنا قريب من قبرى ، لا
والله لا أفعل .

قال ابن جرير الطبري : فانصرفت وأنا في عجب من أمره هو وزوجته ، فلما أصبحنا في
ساعة من ساعات من النهار، سمعت صاحب الدنانير ينادى ...

يقول : يا أهل مكة ، يا معاشر الحجاج ، يا وفد الله من الحاضر والبادي ، من وجد
كيسا فيه ألف دينار، فليرده إلى وله الأجر والثواب عند الله .

فقام إليه الشيخ الكبير ، وقال : يا خرساني قد قلت لك بالأمس ونصحتك ، وبلدنا
والله قليلة الزرع والضرع ، فجد على من وجد المال بشئ حتى لا يخالف الشرع ، وقد
قلت لك أن تدفع لمن وجده مائة دينار فأبيت ، فإن وقع مالك في يد رجل يخاف الله
عز وجل ، فهلا أعطيتهم عشرة دنانير فقط بدلا من مائة ، يكون لهم فها ستر وصيانة
، وكفاف وأمانة .

فقال له الخرساني : لا أفعل ، وأحتسب مالي عند الله ، وأشكوه إليه يوم نلقاه ،
وهو حسبنا ونعم الوكيل .

قال ابن جرير الطبري : ثم افترق الناس وذهبوا ، فلما أصبحنا في ساعة من ساعات
من النهار ، سمعت صاحب الدنانير ينادي ذلك النداء بعينه ويقول : يا معاشر
الحجاج ، يا وفد الله من الحاضر والبادي ، من وجد كيسا فيه ألف دينار فرده على
له الأجر والثواب عند الله .

فقام إليه الشيخ الكبير فقال له : يا خرساني ، قلت لك أول أمس امنح من وجده
مائة دينار فأبيت ، ثم عشرة فأبيت ، فهلا منحت من وجده دينارا واحدا ، يشتري
بنصفه إربة يطلبها ، وبالنصف الأخر شاة يحلبها ، فيسقى الناس ويكتسب ، ويطعم
أولاده ويحتسب .

قال الخرسانى : لا أفعل ولكن أحيله على الله وأشكوه لربه يوم نلقاه ، وحسبنا
الله ونعم الوكيل .

فجذبه الشيخ الكبير ، وقال له : تعال يا هذا وخذ دنانيرك ودعني أنام الليل ،
فلم يهنأ لي بال منذ أن وجدت هذا المال .

يقول ابن جرير : فذهب مع صاحب الدنانير ، وتبعتهما ، حتى دخل الشيخ منزله ،
فنبش الأرض وأخرج الدنانير وقال : خذ مالك ، وأسأل الله أن يعفوي عنى ، ويرزقني
من فضله .

فأخذها الخرسانى وأراد الخروج ، فلما بلغ باب الدار ، قال : يا شيخ مات أبي
رحمه الله وترك لى ثلاثة آلاف دينار ، وقال لي : أخرج ثلثها ففرقه على أحق
الناس عندك ، فربطتها في هذا الكيس حتى أنفقه على من يستحق ، والله ما رأيت منذ
خرجت من خرسان إلى ههنا رجلا أولى بها منك ، فخذه بارك الله لك فيه ، وجزاك
خيرا على أمانتك ، وصبرك على فقرك ، ثم ذهب وترك المال .

فقام الشيخ الكبير يبكى ويدعو الله ويقول : رحم الله صاحب المال في قبره ،
وبارك الله في ولده .

قال ابن جرير : فوليت خلف الخراساني فلحقني أبو غياث وردني ، فقال لي إجلس فقد
رأيتك تتبعني في أول يوم وعرفت خبرنا بالأمس واليوم ، سمعت أحمد بن يونس
اليربوعي يقول : سمعت مالكا يقول : سمعت نافعا يقول : عن عبد الله بن عمر أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : لعمر وعلي رضي الله عنهما ، إذا أتاكما الله
بهدية بلا مسألة ولا استشراف نفس ، فاقبلاها ولا ترداها ، فترداها على الله عز
وجل ، وهذه هدية من الله والهدية لمن حضر   .

ثم قال : يا لبابة ، يا فلانة ، يا فلانة ، وصاح ببناته والأختين وزوجته وأمها
، وقعد وأقعدني ، فصرنا عشرة ، فحل الكيس وقال : أبسطوا حجوركم فبسطت حجري ،
وما كان لهن قميص له حجر يبسطونه ، فمدوا أيديهم ، وأقبل يعد دينارا دينارا ،
حتى إذا بلغ العاشر إلي ، قال : ولك دينار ، حتى فرغ من الكيس ، وكان فيه ألف
دينار ، فأعطانى مائة دينار .

يقول ابن جرير الطبرى : فدخل قلبي من سرور غناهم أشد من فرحى بالمائة دينار ،
فلما أردت الخروج قال لي : يا فتى إنك لمبارك ، وما رأيت هذا المال قط ولا
أملته ، وإني لأنصحك أنه حلال فاحتفظ به ، واعلم أني كنت أقوم فأصلي الفجر في
هذا القميص البالى ، ثم أخلعه حتى تصلى بناتي واحدة واحدة ، ثم أخرج للعمل إلى
ما بين الظهر والعصر ، ثم أعود في آخر النهار بما فتح الله عز وجل على من تمر
وكسيرات خبز ، ثم أخلع ثيابى لبناتى فيصلين فيه الظهر والعصر ، وهكذا فى المغرب
والعشاء الآخرة ، وما كنا نتصور أن نرى هذه الدنانير ، فنفعهن الله بما أخذن ،
ونفعني وإياك بما أخذنا ، ورحم صاحب المال في قبره ، وأضعف الثواب لولد ، وشكر
الله له   .

قال ابن جرير : فودعته ، وأخذت مائة دينار ، كتبت العلم بها سنتين ، أتقوت بها
وأشتري منها الورق وأسافر وأعطي الأجرة ، وبعد ستة عشر عاما ذهبت إلى مكة  ،
وسألت عن الشيخ ، فقيل إنه مات بعد ذلك بشهور ، وماتت زوجته وأمها والأختان ،
ولم يبق إلا البنات ، فسألت عنهن فوجدتهن قد تزوجن بملوك وأمراء ، وذلك لما
انتشر خبر صلاح والدهن فى الآفاق ، فكنت أنزل على أزواجهن ، فيأنسون بي
ويكرموني حتى توفاهن الله ، فبارك الله لهم فيما صاروا إليه .

يقول تعالى : {  ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله
يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه } [الطلاق:
2/3] .
--

 
Delicious Digg Facebook Fark MySpace