بحث
بحث متقدم
إن أول صفة من الصفات الاخلاقية الذميمة وأول رذيلة نقرأها في تاريخ الانبياء وبداية خلقة الانسان، هي (التكبر والاستكبار) والتي وردت في قصة ابليس عندما خلق الله سبحانه وتعالى ادم وامر الملائكة وكذلك ابليس بالسجود له. وقد عدّها اكثر علماء الاخلاق انها أم المفاسد والرذائل الاخلاقية وأساس جميع انواع الشقاء الانساني.
ان النتائج والعواقب الوخيمة للتكبّر لا تتجلى في قصة خلق آدم وحسب، بل نراها متجلية على طول الخط في مسيرة البشرية، ولهذه الصفة الذميمة دور كبير في خلق مواقف وأحداث كارثية جسام وبسببها يفقد الملايين حياتهم التي يجب أن ينعموا بها كما اراد الله ذلك لهم.
واليوم نرى ان خصلة التكبر تمد أذرعها في معظم جوانب الحياة، فهي تقف خلف ظواهر الفساد الاداري والاخلاقي والظلم والحرمان والطغيان. من هنا فان منطق العقل يعد هذه الصفة والخصلة من مذمومات الاخلاق، لان العقل والفطرة الانسانية ترى ان جميع افراد البشر متساوون وهم عباد الله تعالى وكل انسان يجد في نفسه نقاطاً ايجابية وقابليات وملكات في طريق الكمال، فكلهم من أب واحد وأم واحدة، لذا هم سواسية في ميزان الخلق، فلا دليل منطقي على ان يرى أي انسان نفسه أعلى من الاخرين ويفتخر على غيره ويسعى لتحقيره وحتى لو رأى في نفسه موهبة أو ميزة يفتقدها الاخرون، فمثل هذه الموهبة يجب ان تكون سبباً ليتحرك في خط الشكر لله تعالى والتواضع لا في خط الكبر والغرور.
وطالما أكد الاسلام على مكافحة هذه الخصلة في النفس البشرية والحؤول دون استفحالها وظهورها على شكل سلوكيات ومواقف تخل بنظام الحياة، وقد وردت آيات عديدة في ذمّ التكبّر وحالة الاستكبار، وليس أدلّ على ما نقول ما جاء في الآية الكريمة التي تفضل النصارى على اليهود، وتعدهم الأقرب على المسلمين، حيث وصفت أحبارهم وقساوستهم بأنهم لا يستكبرون؛ "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ" (المائدة /82). فقد جعل الله تعالى معيار التقارب بين المسلمين وغيرهم هو التواضع وعدم التكبّر، فكيف اذا كان التعامل بين أبناء الدين الواحد بل والمذهب الواحد؟
وفي تراثنا غير قليل من الأحاديث والقصص من سيرة أهل البيت (عليهم السلام) في ذمّ (التكبّر) والحثّ على التواضع، لا سيما في سيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الذي قدم نماذج ساطعة للبشرية في التواضع للناس، وبذلك غيّر مجرى الحياة الاجتماعية في الجزيرة العربية القائم على التمييز الطبقي والطغيان والاستكبار والاستضعاف، فقد كان يجالس النساء العجائز والاطفال والفقراء بل وجميع ابناء المجتمع، بل لم يكن يتكبر حتى على الحيوان والنبات! وهذه بحق قمة التواضع التي ترفع صاحبها الى أعالى السمو والتكامل الانساني.
الى جانب هذا بحث علماء الاخلاق في هذه الصفة أو النزعة النفسية، وحاولوا ايجاد الحلول الجذرية لها بشكل علمي، أو على الأقل ليكون الانسان في مأمن من هذه الصفة الرذيلة ولكي يقي الانسان نفسه منها، ومن جملة البحوث والدراسات تبين ان التكبر ينشأ من ثلاث حالات: الأولى أن يرى الانسان لنفسه مكانة ومرتبة معينة، والثاني: ان يرى لغيره ايضا مكانة معينة، والثالث: انه يرى من خلال مكانته ومكانة الاخر اختلافاً وهذا الاختلاف يشعره بالراحة والفرح.
والتكبر أو الكبر من افرازات الحالة النفسية، وتبرز في العمل او الحركة الناشئة في تلك الحالة النفسانية، وعلامات التكبر كثيرة، منها؛ ان المتكبر يتوقع اموراً كثيرة من الناس مثلاً ان يتوقع منهم ان يسلموا عليه، وان لا يدخل أحد الى المجلس قبله، وان يجلس في صدر المجلس دائماً، والناس لا يرون لانفسهم شخصية أمامه ولا يتكلمون معه من موقع الانتقاد والنقد بل حتى من موقع النصيحة والموعظة فيحفظون احترامه وحرمته دائما ويقفون امامه موقف الخاضع الخاشع ويتحدثون بعظمته ومقامه السامي دائماً، ومن البديهي ان ظهور وبروز هذه الحالات في ممارسات الانسان وسلوكياته تابع لدرجة شدة وضعف حالة التكبّر في واقعه النفساني، ففي بعض الموارد تتجلى هذه العلامات جميعاً وفي بعضها الاخر يتجلى قسم منها.
وهذه الحالات والسلوكيات في الواقع الخارجي لها جذور باطنية واحيانا تكون ضعيفة وخفيفة الى درجة ان الانسان نفسه لا يشعر بوجودها بل قد يتصور هذه الصفة الذميمة من موقع نقطة القوة من قبيل توكيد الذات والشخصية او الثقة بالنفس فتختلط عليه المفاهيم، واحيانا تكون ظاهرة الى درجة ان الاخرين ايضاً يدركون وجودها في هذا الانسان.
وهناك مفاهيم متعددة تحكي عن هذه الحالة النفسانية حيث يتصور البعض انها بمعنى واحد، ولكن الواقع ان هناك اختلافاً دقيقاً فيما بينها رغم انها تمتد جميعا الى أصل واحد ولكنها تتجلى في زوايا ووجوه مختلفة منها حالة الفوقية والانانية والذاتية وعظمة الشخصية والتفاخر، كل هذه المفاهيم تتصل بجذورها الى أصل التكبر، رغم انها تعني مفاهيم مختلفة وناظرة الى سلوكيات متنوعة في حركة الانسان الاجتماعية والنفسية.
ومن هذا قسم علماء الاخلاق التكبر على ثلاثة اقسام: التكبر مقابل الله، ويعد هذا القسم من التكبر اسوأ انواعه وناشئاً من غاية الجهل، وكان أصدق مصداق له في التاريخ هو فرعون عندما قال: "انا ربكم الاعلى"، أما القسم الثاني: هو التكبر مقابل الانبياء، وهذا ما نجده في طواغيت الارض والمستكبرين الذين وجدوا في اتباع الرسل والانبياء تقليلاً من شأنهم ومكانتهم في المجتمع، "وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً" (الفرقان /7)، أما القسم الثالث فهو التكبر مقابل عباد الله، وهو ما نجده منتشراً بين أوساط المجتمع، بحيث يرى البعض نفسه أعلى من الآخرين ويرى الاخرين من موقع الحقارة والدناءة وانهم لا قيمة لهم أمامه وبالتالي فلا يرى للآخرين حقا عليه.
والمثير حقاً أننا في الوقت الذي نشهد انتشار هذه الظاهرة بين بني البشر في العالم وعلى أكثر من صعيد، نجد أيضاً الشعارات البرّاقة من لدن مؤسسات وجهات دولية كبيرة ترفع شعارات انسانية يفترض انها تمر من خلال نبذ التكبّر والاستكبار، وإلا كيف يمكن تحقيق الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي أقرته الأمم المتحدة أواسط القرن الماضي في وقت يسود الاستكبار والطغيان جميع انحاء العالم وتدفع شعوب العالم الضعيفة ثمن التطاول والاطماع والانانية من لدن الدول الكبرى وأصحاب الشركات والرساميل الضخمة؟

     

Delicious Digg Facebook Fark MySpace