الطـــــــيـــــــــران
قد غيّرتُ هويتي وانتقلتُ من البحرِ إلى السّماء وقريباً سأقولُ لأساتذتي وداعاً وإلى اللقاء
وسأتركُ الجميعَ خلفي ولن ألتفتَ للوراء وسأمحو من ذاكرتي كلَّ الموادِ دونَ استثناء
وسأنسى ما تعلمته ولن يبقى في ذهني شيءٌ من الأشياء وسأعودُ إلى مدينتي ولن يجبرني شيءٌ على البقاء
وسأبدأُ من البداية وأنطلقُ من جديدٍ كما يفعل العقلاء لألتحقَ بكليتي وأظهرَ العبقريةَ و الذكاء
بهندسةٍ كانت حلمي وكانت لي أعظمَ رجاء ولا تزالُ حلمي وسأحققُ هدفي مهما كانت الآراء
سأدرسُ فيها ولو بعدَ دهرٍ وأظهرُ الإخلاصَ والوفاء وسأفي بعهدي مهما كلّفَ الثمنُ وسألبي النداء
وسأعيشُ فيها أياماً ستكونُ مملوءةً بالجدِّ والعطاء بعدها سأقفُ مزهواً بجوارِ مروحيةٍ أو تحتَ طائرةٍ حسناء
وسأمشي في المطارِ بفخرٍ بكلِّ عزٍّ وكبرياء أو سأجلسُ في غرفةِ القيادة وعندئذٍ سأتنفسُ الصعداء
هندسةَ الطيران ... يا هندسةً ستكونُ لي شفاء من معاناتي وتعبي ،وعمري الذي ضاع هكذا هباء
وستكونينَ غصةً في قلبِ الحاسدينَ النقماء وأتذكّرُ الماضي المؤلم وأفكّر ماذا استفدتُ من هؤلاء
قد عاملوني كأنني من كوكبٍ آخر وكأنني من الغرباء
و حشوا عقلي بالعلوم التي لا تختلفُ عن بعضها إلا بالأسماء
ولم يظهروا اهتماماً ولا تقديراً وكأنّهم قد نسوا الحياء
ستكـتب أعمالهم ،ويحاسبوا عليها ويا حسرة ً يومئذٍ على الفقراء
عندها سأُعانقَ الغيومَ وسأطيرُ محلّقاً في الفضاء وسأسافرُ مع الطّيورِ المهاجرة ،ومع السّحبِ البيضاء
وسأشاهدُ الجبالَ والأنهارَ والسّهولَ الخضراء ما أعذبَ هديرها عندما تطيرُ مقلعةً في الهواء
ما أحلى هبوطها وكأنها نسرٌ جارحٌ أو عنقاء ما أجملَ الذيلَ والجناحَ وهذهِ العجلةَ السّوداء
ما أجملَ رأسها وما أرشقَ جسمها وما أروعها عند الإنشاء ما أقوى محرِّكها ويا لسرعتها .... يا لعظمةِ هذا البناء
وفي الليلِ تبدو كعروسٍ متألقةٍ تشعُّ بالأضواء وأما الحوّامةُ فهي كإعصارٍ مدمرٍ أو عاصفةٍ هوجاء
وكأنّها نحلةٌ عندما تطيرُ أو أشبه برايةٍ أو لواء ما أمتعَ الدراسةَ فيها .... حقاً هذه هي كليةُ الأمراء
ما أخطرَ الإقلاعَ في العواصفِ،وما أصعبَ الهبوطَ عند المساء
سأبقى أحبُّها حتى ولو هبطتُ اضطرارياً في الصحراء
أو فقدتُ السيطرةَ عليها وسقطتُ معها في مياهٍ زرقاء أو هوَتْ بي في وادٍ من الوديانِ وتبعثرتْ مني الأشلاء
وسأتركُ تلكَ السفينةَ الغبيةَ تتمايلُ على الماء وأفكّرْ هل كنتُ حقاً في الهندسةِ البحرية يا للغباء
أمضيتُ فيها سنـيـناً كانــتْ ملـيئةً بالأخـطـــاء في مديـنـــةٍ لا تـرى فيها إلا الفـاتـنـاتِ والنـــساء
قد كنتُ تعيساً ومهموماً ولم أشعرْ يوماً بالهناء هل كنتُ سأعملُ على ظهرِ سفينةٍ ويا لها من فكرةٍ حمقاء
أم كنتُ سأعملُ في مرفأٍ وسأصبحُ حينها من الأغبياء أفضلُ الموتَ محترقاً على أن أغرقَ في ليلةٍ عمياء
عندها وبلا فخرٍ سأصبحُ بإذنِ اللهِ شهيداً من الشهداء
أو أن أهويَ بطائرتي وأتحطّمَ معها في إحدى عواصفِ الشّتاء
أو أنجوَ منها وأبقى وحيداً بجوارها في أرضٍ جرداء وإن مررتُ يوماً بإحدى السفنِ فسأنظرُ إليها بكلِّ ازدراء
وأضحكُ على تلكَ السفنِ التي تنتظرُ دورها للدخولِ إلى الميناء
وأحمدُ الله أن أنقذني من البؤسِ والشقاء وأن وفقني إلى علمٍ أرتقي بهِ إلى العلماء
وإلى عملٍ يجعلني بمشيئةِ اللهِ دونَ غربةٍ من الأغنياء حينها فقط سأصبحُ مهندساً فهذه هي هندسةُ النبلاء
سنةٌ واحدة وتنتهي محكوميتي التي اختارها لي القضاء
وسأتخرجُ من البحرية وسيكونُ ذلك اليومُ لي عيداً للجلاء
وسأغدو حُرَّاً طليقاً وسأصبحُ من أسعدِ السُّعداء وسأعيدُ امتحانَ الثانويةِ العامة وسأنجحُ فيها بدونِ عناء
وسأقرأُ قصيدتي هذه التي ستكونُ لي رثاء خمسَ سنينٍ مضتْ عانيتُ فيها من كلِّ داء
عانيتُ حُقداً وبغضاً من أُناسٍ كأنّهم لي أعداء وغُدرتُ من أشخاصٍ كنتُ أعدُّهم من الأصدقاء
وما أصعبَ تلكَ النظرات عندما يتهامسُ الزملاء مع أنني أحترمهم وأكنُّ لهم وُدَّاً فلمَ هذا الجفاء
بكلِّ شرٍّ قابلوني ...وبادرتهم أنا بالطيبةِ والإخاء في كل سنةٍ أقولُ هذه أفضلُ من سابقتها إنِ اللهُ شاء
لكنني أبتلي بأشخاصٍ في غرفتي أحقرَ من الحقراء وتكونُ السّنةُ كسابقتها على الحدِّ سواء
راحَ الكثيرُ وبقيَ القليلُ واقتربَ موعدُ العشاء وقريباً ستظهرُ النتائجُ وتُنشرُ الأخبارُ ويوضعَ الثناء
فيا ربِّ بلغني مرادي وثبّتْ خطاي وأَجبْ لي الدعاء وعوضني عن تلكَ الأيامِ التي أمضيتها في الحزنِ والبكاء
ووفقني في دراسةِ الطيرانِ وأوصلني إلى العلياء وألهمني الصبرَ في الدراسةِ مرةً أخرى من الألفِ إلى الياء
واجعلْ علومها وموادها لي ألذَّ وأطيبَ غذاء واجعلْ دراستي فيها راحةً من الماضي واجعلها خيرَ دواء
واجعلْ ورقاتي الإمتحانية تتلألأ بالنور والضياء وزدني علماً وارفعْ مكانتي واجعلني وزيراً من الوزراء